كيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا
كيف تؤثر الموسيقى على أدمغتنا
لماذا نحن قادرون على تذكر كلمات الكثير من الأغاني ولكن لا نستطيع تذكر أي قصيدة؟
الموسيقى
الموسيقى لها وقع خاص علينا، لأنها تملك قدرةً استثنائية على تحفيز الذكريات، تسمح لنا بتذكر الأشياء التي حدثت في الماضي، هذا ما قاله عالم الأعصاب ألان هارفي (Alan Harvey)
تنبع قدرة الموسيقى الإستثنائية من كونها محفزة للمشاعر والذكريات للأفراد، لأننا دائما نشعر بحال أفضل، وحيوية، وطاقة، عند الإستماع الى الموسيقى التي نحبها ونفضلها، وأعتقد بأن معظمنا يستطيع لمس هذا الشعور في داخله، كما أننا نحصل على شعور المكافأة وحتى شعور الإدمان كردة فعل مما يجعلنا نرغب في النهوض، الحركة، والرقص عند سماع الموسيقى.
تؤثر الموسيقى علينا على المستوى الحيوي داخليا: ويمكنها أن تؤثر على ضغط الدم وضربات القلب والهرمونات؛ وخارجيا: يمكنها أن تؤثر علينا، بإعطائنا دفعة طاقة، أو شعورٍ بالقشعريرة في أجسادنا، وأحيانا تدفعنا الى البكاء.
معظم الأشخاص حول العالم يقدرون ويصنعون الموسيقى وهذه مهارة إنسانية عالمية.
وبفضل الأدلة الأثرية والدراسات الوراثية، يمكننا أن نخمن أن أسلافنا بدأوا بمغادرة إفريقيا وانتشروا في أرجاء الأرض بين ما يقارب 65-75 ألف سنة مضت وحملوا معهم قوة اللغة والموسيقى، فأول الآلات الموسيقية التي يعلم بها الإنسان الآن الفلوت العظمي (bone flute) وعمرها على الأقل 40 ألف سنة.
الآن ما هو مُوافقٌ عليه بشكل عام، أن تقدم العقل الحالي مرتبط بشكل وثيق بتطور اللغة، اللغة هي الوسيلة التي بوساطتها نتعلم ونمرر المعلومات، الأفكار، المهارات، والخطط، ضمن وعبر الأجيال.
إذا كانت اللغة هي الشريك الأساسي من قوتنا المعرفية المتطورة حديثا فلماذا نمتلك الموسيقى؟
كتب إيان كروس: الموسيقى لا تحرث، لا تزرع، لا تنسج، ولا تغذي، فلماذا لدينا موسيقى عالمية؟
الآن هناك عدة أفكار تم وضعها لمحاولة فهم هذه العالمية؛ داروين على سبيل المثال إعتقد أن الموسيقى والرقص لديهما علاقة بالرشاقة وإيجاد شريك، أشخاص آخرين آمنوا بأن الموسيقى مهمة عندما تتواصل الأمهات مع أطفالها خلال أشهرهم الأولى قبل أن يعلم الأطفال كيفية استخدام اللغة والتحدث.
إذا نظرنا الى مناطق محددة في الدماغ سنجدها نشطة عندما نعالج اللغة أو الموسيقى، فهناك بعض مجالات التداخل، ولكن أيضا هناك فرق واضح، لذلك عند معظم الأشخاص يتم معالجة اللغة بالقسم الأيسر (النصف الأيسر) من الدماغ؛ بينما الموسيقى لديها إنحياز واضح للنصف الأيمن.
تُفَعِل الموسيقى العديد من الروابط العصبية من خلال نظام Limbic system في الدماغ وهو قسم متطور للتعلم، للذاكرة، وللإستجابات العاطفية، تُفَعِل الموسيقى مركز المكافأة في الدماغ المركز الذي يتفعل بنشاطات ممتعة أخرى مثل: الرياضة والاستمتاع بالطعام ... وتقوم الموسيقى بتزويدك بما هو أكبر من شعور جيد. تُفَعِل الموسيقى مناطق من الجزء الأمامي من الدماغ التي تتفعل عند القيام بالأعمال الإيثارية التطوعية.
دعني أريك قوة الموسيقى في تغير نظرتنا للكثير من الأشياء، لا بد من أنك شاهد العديد من المواقف التي تحتوي مقطع عرض ممزوجٍ معه موسيقى، تخيل معي عزيزي القارئ مثلا: لو تخيلت معي مجموعة من أسماك القرش تسبح أمامك وأنت تستمع الى موسيقى هادئة متأملة ستبدأ بالنظر الى حركة الأسماك المنسجمة وتمعن النظر في تفاصيلها المختلفة، ولو أعدت نفس المشهد ولكن مع نوعٍ آخر من الموسيقى التي تُنذر بالخطر ستتغير نظرتك على الفور من تأمل الى تأهب وانتظار لما سيحدث مع أنك شاهدت نفس الفيديو في الوقت ذاته، ولكن مع إختلاف المؤثرات التي أضيفت على الفيديو تغيرت وجهة نظرك للشيء، وغيرها الكثير من الأمثلة على هذا النمط. هذا ما يجعل الموسيقى ونوعها مهما في كثير من المشاهد المصورة.
كيف تؤثر الموسيقى على الدماغ.
دعني أريك بعض الصور المأخوذة باستخدام تخطيط الدماغ الكهربائي (EEG) لشخص عندما استمع الى العديد من أنواع الموسيقى وكيف تغير نشاط موجات دماغه وفقا لنوع الموسيقى التي سيسمعها.
الصورة (A) سترى أمواج ألفا التي يتزامن ظهورها مع أنشطة التأمل، الراحة، والتي تقلل من مستويات التوتر، وتساعدك على الشعور بالهدوء.
الصورة (B) عندما تستمع الى موسيقى مزعجة وغيرَ مُحببة، سترى الإنزعاج، والتشتت الحاصل في الدماغ.
هذا ما يثبت لنا أن الدماغ يكون في أفضل حالاته عندما تستمع الى أي صوت مٌحببٍ ومريح مما يشعرك بالإسترخاء والراحة التامة، ولا أعتقد أن هذا حِكراً على الموسيقةِ وحدها وإنما ينطبق على أي شيء في حياتنا، ولكن أسهل شيء يمكنه إيصالنا الى هذه المرحلة ويَسهلُ علينا ايجاده هو الموسيقى، كما أنها تتميز عن باقي الأشياء ويمكننا القول أن هذه الفوائد تأتي حصرا من الموسيقى. لماذا؟
ولماذا لا نقول أن الرياضة أو الرسم أفضل منها؟ أو أن الموسيقيين الذين وقعت عليهم التجربة أذكياء منذ البداية؟
بحث علماء الأعصاب في هذه القضايا، حتى الآن إكتشفو أن الجوانب الفنية والجمالية لتعلم العزف على آلة موسيقية تختلف عن أي أنشطة أُخرى، بما في ذلك الفنون المتبقية، وأُجريت العديد من الدراسات العشوائية للمشاركين الذين أظهروا معدلات متشابهة في الوظيفة المعرفية والمعالجة العصبية عند البداية، ووَجدت أن هؤلاء الذين درسوا الموسيقى لفترة معينة، أظهروا تحسناً في مناطق متعددة من الدماغ بالمقارنة مع الآخرين، البحث المؤخر عن الفوائد العقلية للعزف طور من فهمنا للوظيفة العقلية، كاشفا الإيقاعات الداخلية والتفاعل المعقد الذي يؤلف الأوركسترا لأدمغتنا.
إن الموسيقى تؤثر على النواقل الكيميائية والهرمونات في أدمغتنا، وتُؤثر على الجهاز المناعي أيضا. على سبيل المثال خلال استماعك لقطعة موسيقية مألوفة لك، غالبا ما يكون هناك ذروة عاطفية لتلك الموسيقى، وأنت تتوقعها وتترقبها، وأنت في مرحلة الترقب هذه عندما تتوقع هذه الذروة العاطفية، يتحرر الناقل العصبي الذي يدعى الدوبامين في أماكن معينة في الدماغ، عندما تصل الذروة العاطفية يمكنك دعوتها بالذروة الموسيقية يحدث إرتفاع مفاجئ في الدوبامين في مناطق المكافأة في الدماغ؛ يتدخل الدوبامين في طرق أخرى التي لها علاقة بمعالجة المعلومات حول الدافع والإنتباه والحركة والإدمان.
بعد أخذ صورة للدماغ، ستجد أن المناطق الفعالة عندما تقوم بمهمة اجتماعية التي تحتاج الى تعاطف وتَفَهُمِ مشاعرِ الآخر أنها نفس المناطق التي تكون فعالة عندما تستمع الى موسيقى ممتعة، وموسيقى تحبها.
ومن المثير للإهتمام، أن مستوى هرمون الاكسيتوسين في الدم يرتفع عندما يغني الأشخاص مع بعضهم البعض، فالاكسيتوسين عبارة عن هرمون يترافق مع التعاطف والثقة وبناء العلاقات، وله العديد من الفوائد، منها يساعد في علاج الإكئاب والقلق.
فوائدها.
تعتبر الموسيقى لاصق اجتماعي، ومن الواضح أنها تعزز إحساسنا بالصحة العقلية. كما أن باستطاعة الموسيقى أن تفتح الذكريات المنسية للأشخاص المصاين بالزهايمر، ويمكن استخدام الموسيقى الآن لعلاج أنواع معينة من أمراض النمو، مثل التوحد. ويمكن إستخدامها في علاجات إعادة التأهيل لتحسن المزاج والأداء الحركي لدى المرضى الذين يعانون من سكتة دماغية، أو الإصابات الدماغية، أو في حالات مثل مرض باكنسون، كما أنها استخدمت لمساعدة عضو الكونغرس السابقة غابرييل جيفوردز على تعلم التحدث مرة أخرى بعد إصابتها في الجزء الأيسر من الرأس وفقدها القدرة على التحدث.
الدراسات.
قام باحثون في جامعة جنوب كاليفورنيا في دراسة للأطفال الذين يعزفون الموسيقى على مدى خمس سنوات مضت لمعرفة مدى تأثيرها عليهم، فظهر أن لها فوائدَ ومهاراتٍ معرفية، وأثرت على صنع القرار والسلوك الإجتماعي للأطفال، ووُجدَ أن أدمغة الأطفال الذين درسوا الموسيقى، بأن لديهم أقوى الإتصالات بين جُزئي الدماغ الأيمن والأيسر والتي يمكن أن تجعلهم أفضل، وأكثر إبداعا.
إذا الموسيقى علاج فعال، الذي من الواضح وجوب إستخدامه في المجال الطبي. ولكن من المحتمل في مجال التعليم قوة الموسيقى هي الأهم. المزيد والمزيد من الأبحاث التي تظهر لنا أنه حتى القليل من التعليم الموسيقي لديه تأثير إيجابي على التطور المجتمعي والمعرفي للأطفال، وهذه التأثيرات طويلة الأمد. فهي تُحسن من المهارات السمعية، والمهارات الحركية، وتحسين الذاكرة التي تظهر أنها مستمرة طوال الطريق العمري حتى الشيخوخة، والمهارات الشفوية، والتعليمية للكتابة والقراءة، حتى أن البعض يقترح مهارات أفضل في الرياضيات. ولها تأثير إيجابي جدا على كيفية تفاعل الأطفال على المستوى الإجتماعي، بما فيهم الأطفال الذين يأتون من خلفيات ثقافية مختلفة.
أهميتها.
ما أهمية هذا هذه الأيام؟ حتى الآن على ما يبدو أن الموسيقى تصنف كفن، ومفصولة عن العلم، ومحجورة من المشاكل الإقتصادية والمهنية الدائمة التي تهيمن على وجودنا. حتى العصور الوسطى كانت الموسيقى جزءً طبيعياً من التعليم وكانت تُعلم بالترافق مع علم الحساب، الرياضيات، علم الفلك، والهندسة.
الآن يقول Alan Harvey بأن اللغة بالتأكيد هي العنصر المفتاحي والقسم المهم من تطور الإنسان والتواصل البشري، ولكن بشكل جوهري هي خاصةٌ فردية، لأننا نتحدث بالتناوب؛ لموازنة الأمور لدينا.
أما الموسيقى التي سماها المنسقة، تربطنا بطريقة لا يمكن للغة أن تقوم بها الا نادراً، فهي عبارة عن نظام تواصل اجتماعي الذي لعشرات آلاف السنين ساعدنا على الإتحاد والعمل سويا، وعندما نؤلف الموسيقى على الأقل بالنسبة لي يبدو العالم مكاناً أفضل بكثير، وننسى مخاوفنا الفردية وهمومنا وما يقلقنا.
ليست هناك تعليقات